أخر المواضيع

رابعة العدوية: عابدة البصرة ورمز الحب الإلهي

هي أم الخير رابعة بنت إسماعيل العدوية، وُلدت في مدينة البصرة في مطلع القرن الثاني الهجري، على الأرجح سنة 100هـ / 718م، ونُسبت إلى قبيلة بني عدوة. كانت أسرتها فقيرة الحال، بل عانت في صغرها من اليتم والفاقة، حتى روي أن والدها توفي وتركها مع إخوتها في عوز شديد.

رابعة العدوية: عابدة البصرة ورمز الحب الإلهي

 

نسبها ونشأتها

في مدينة البصرة، حيث تختلط رائحة النخيل بأنين الفقر، ولدت طفلة رقيقة ضعيفة الجسد، قوية الروح. سماها أهلها رابعة لأنها كانت الرابعة بين إخوتها. لم يلبث والدها الفقير أن فارق الحياة، فتركها في عالم قاسٍ لا يرحم، عالم كانت فيه الطفولة تعني الكفاح قبل اللعب.

كبرت رابعة يتيمة، تحمل قلبًا ممتلئًا بالحنين إلى رحمة لا تنقطع، وعيونًا تفيض بالدموع في ليل طويل. ومع فقرها المدقع، وابتلاءاتها المتلاحقة، لم تنكسر روحها، بل ازداد قلبها قربًا من الله.

رغم هذه الظروف القاسية، عُرفت منذ نعومة أظفارها بحدة ذكاء وصدق توجه وقلب مملوء بحب الله.

حياتها وزواجها

تذكر بعض المصادر أنها لم تتزوج، إذ نذرت نفسها لعبادة الله والانقطاع إليه. ويذهب بعض المؤرخين إلى أنها عُرض عليها الزواج من عدد من العلماء والزهاد لكنها كانت ترفض، معتبرة أن قلبها قد امتلأ بمحبة الله تعالى فلا يسع غيره 

قيل إنها عملت في بداية حياتها خادمة عند بعض الناس بسبب شدة الفقر، ثم أُعتقت، فانطلقت بعد ذلك في طريق العبادة والتنسك، حتى غدت من أعلام الزهد في عصرها.

من العبودية إلى الحرية

باعها الزمان يومًا جارية عند رجل من أهل البصرة. وفي بيت سيدها، كانت رابعة تقضي ليلها قائمًة ساجدة، تبكي وتناجي الله.

اشتهرت رابعة العدوية بعبادة عظيمة وزهد شديد، فقد كانت تقوم الليل طويلًا، وتصوم النهار كثيرًا، وتبكي من خشية الله. لم يكن زهدها رفضًا لمظاهر الدنيا فقط، بل كان تعبيرًا عن شوقها إلى لقاء الله وصدق محبتها له.

ويُنسب إليها أنها صاحبة مدرسة روحية خاصة في الحب الإلهي، حيث كانت تدعو إلى عبادة الله لا خوفًا من ناره ولا طمعًا في جنته، بل حبًا فيه لذاته.

 ومن أقوالها المشهورة: رآها سيدها ذات ليلة تهتف:

"إلهي، إن كنتَ تعلم أني ما عبدتك خوفًا من نارك ولا طمعًا في جنتك، فاحرمني منهما، ولكني عبدتك حبًا لك وحدك."

اهتز قلب الرجل لما سمع، وأيقن أن هذه ليست جارية عادية، فأعتقها لوجه الله. خرجت رابعة من بيت العبودية إلى حرية الروح، لتختار أن تعيش أسيرة الحب الإلهي.

مدرسة الحب الإلهي

في زمنٍ كان أكثر الناس يعبدون الله خوفًا من النار أو طمعًا في الجنة، رفعت رابعة راية جديدة: العبادة بدافع الحب.

قالت كلمتها الخالدة التي أصبحت دستورًا للقلوب:

"اللهم إني ما عبدتك خوفًا من نارك، ولا طمعًا في جنتك، ولكن عبدتك حبًا لك وشوقًا إليك."

أثرها في زمانها

تأثر بها كبار العُبّاد مثل سفيان الثوري ومالك بن دينار، وكانوا يجلسون بين يديها يسمعون حكمتها كما يسمع التلميذ من أستاذه. حتى صار بعضهم يقول: "رابعة أستاذة الرجال في طريق الله."

انقطعت رابعة لعبادة الله، لا يشغلها زوج ولا ولد، ولا مال ولا جاه. رفضت الدنيا بكل ما فيها، ورفضت الزواج رغم عروض كثيرة من علماء وزهاد، وقالت:
"أنا مشغولة بالله، فكيف أنشغل بغيره؟"

كانت تقوم الليل حتى يطلع الفجر، وتصوم النهار أكثر أيامها، وتعيش على القليل من الطعام، وكثير من الدموع والدعاء.

أشهر أقوالها وحِكمها

  إني لأستحي أن أسأل الدنيا ممن يملكها، فكيف أسألها من لا يملكها؟"

اللهم إن كنتَ تعلم أني أعبدك خوفًا من نارك فاحرقني بها، وإن كنتُ أعبدك طمعًا في جنتك فاحرمني منها، وإن كنت أعبدك حبًا لك فلا تحرمني من جمالك ووجهك الكريم."

إنما يُخاف على العبد إذا أحب الدنيا أن يسلب حب الله من قلبه."

مكانتها وما قيل فيها

أجمع المؤرخون والعارفون بالله على أن رابعة العدوية كانت من أعلام الزهد والعبادة، حتى عدّها بعضهم أستاذة للرجال في الطريق الروحي.

قال عنها الحافظ الذهبي: "القدوة، العابدة، رابعة بنت إسماعيل العدوية البصرية، كانت من سادات نساء زمانها."

وقال عنها أبو طالب المكي: "كانت رابعة قدوة للنساء، بل للرجال أيضًا، في صدق التوجه والزهد."

كما أثرت في عدد من كبار الزهاد والمتصوفة مثل سفيان الثوري ومالك بن دينار وعبد الواحد بن زيد.

وفاتها

عاشت رابعة حياتها زاهدة، لا تملك من الدنيا إلا قلبًا عامرًا بحب الله. وحين جاءها الموت في البصرة سنة 185هـ تقريبًا، رحلت بهدوء، تاركة وراءها سيرة عطرة، وحكاية تُروى جيلاً بعد جيل.

خلاصة

تمثل رابعة العدوية نموذجًا فريدًا في تاريخ الإسلام، إذ جمعت بين صدق العبادة وعمق الزهد والإخلاص في حب الله. تركت للأمة الإسلامية تراثًا من الأقوال والمواقف التي خلدت اسمها، لتكون قدوة لكل من أراد أن يتذوق حلاوة الإيمان ويجعل قلبه عامرًا بمحبة الله.

رابعة العدوية لم تكن مجرد عابدة من العابدات، بل كانت مدرسة روحية كاملة، غيّرت مفهوم العبادة والزهد عند المسلمين. فقد رفعت شعار: "اعبدوا الله حبًا له، لا خوفًا من عقابه ولا طمعًا في ثوابه."

لذلك ظلت سيرتها منبع إلهام لكل من يسعى للإخلاص في عبادة الله وحبّه.

ليست رابعة العدوية مجرد امرأة من نساء التاريخ، بل هي رمز خالد للحب الصادق والإخلاص في العبادة. هي التي علّمت القلوب أن أعظم العبادات ليست في كثرة الركعات فقط، بل في صدق النية، ونقاء المحبة، وإخلاص التوجه إلى الله.


ليست هناك تعليقات