التربية على العقيدة وَالْعِبَادَة
المؤلف: عبد الرحمن بن عبد الكريم الزيد
الْحَمد لله رب الْعَالمين وَالصَّلَاة وَالسَّلَام على من أرْسلهُ الله رَحْمَة للْعَالمين وَجعله هادياً ومربياً وقدوة للْمُؤْمِنين.
لقد أرسل الله نبيه مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى هَذِه الْأمة وَأنزل عَلَيْهِ كِتَابه وَأمره أَن يَدْعُو النَّاس إِلَى عبَادَة رَبهم وتوحيده وَترك الشّرك وَعبادَة الْأَصْنَام فَاسْتَجَاب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأمر ربه فَقَامَ وأنذر، وصدع بِمَا يُؤمر، وأنذر عشيرته الْأَقْرَبين، ودعا الْعَرَب إِلَى تَوْحِيد رب الْعَالمين، فَاسْتَجَاب لَهُ من أَرَادَ الله هدايته وَأعْرض عَنهُ وعاداه من آثر الغواية والضلال، وَلَقَد كَانَ المستجيبون قليلين مستضعفين يخَافُونَ أَن يتخطفهم النَّاس فاعتنى بهم الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ورباهم بِحِكْمَتِهِ، وغرس فِي قُلُوبهم العقيدة القويمة وصاغ مِنْهُم صوراً حَيَّة لِلْقُرْآنِ، ونماذج لِلْإِسْلَامِ، فَقَوِيت هَذِه الْقلَّة بعد ضعف، وَكَثُرت بعد قلَّة، ونصرها الله يَوْم نصرته، وحقق آمالها لما صبرت فَانْطَلَقت تنشر الْإِسْلَام فِي أرجاء الأَرْض، وتحطم عروش الْجَاهِلِيَّة ومعتقداتها حَتَّى أتم الله لَهُم ومكنهم فِي الأَرْض فَانْتَشرُوا فِي شَرق الأَرْض وغربها، وفتحوا أقوى الممالك على وَجه الأَرْض فِي ذَلِك الْوَقْت، وبلغوا رِسَالَة رَبهم إِلَى أرجاء المعمورة فِي فَتْرَة وجيزة.
كَانُوا رُعَاة جمال قبل نهضتهم... وَبعدهَا ملأوا الْعَالم تمدينا
لَو كَبرت بِأَرْض الصين مئذنة... سَمِعت فِي الغرب تهليل المصلينا
فلنتأمل فِي التربية الَّتِي صنعت هَؤُلَاءِ الْأَبْطَال. ولننظرفي مَنْهَج المربي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي هُوَ قدوة هَؤُلَاءِ الرِّجَال فإنّ من الْوَاجِب
علينا أَن نقتفي أثر الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونستقي من منهجه فِي
الدعْوَة والتربية فَهُوَ قدوتنا وقائدنا ﴿ لقد كَانَ
لكم فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة لمن كَانَ يرجوا الله وَالْيَوْم الآخر
﴾ [1] وَهَذِه
وقفات مَعَ منهجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي التربية وَقد جَعلتهَا وفْق
الْآتِي:
وَقد تمّ جمع الْأَحَادِيث وترتيبها حسب الْمُنَاسب فِي نَظَرِي وعلقت على مَا يحْتَاج إِلَى تَعْلِيق وأنقل من أَقْوَال أهل الْعلم من شرَّاح الحَدِيث وَغَيرهم مَا أرَاهُ مناسبا وَمَا كَانَ من الْأَحَادِيث فِي الصَّحِيحَيْنِ أَو أَحدهمَا فأكتفي بتخريجه وَمَا كَانَ من غَيرهمَا فأدرس إِسْنَاده وَأثبت مَا توصلت إِلَيْهِ من دَرَجَته بعد تَخْرِيجه.
هَذَا وأسأل الله أَن يَجْعَل هَذَا الْعَمَل خَالِصا لوجهه وَأَن ينفع بِهِ
وَهُوَ الْمُوفق سُبْحَانَهُ.
الوقفة الأولى: التربية على العقيدة وَالْعِبَادَة
لَا شكّ أَن العقيدة الراسخة هِيَ أساس التربية وَلذَلِك فقد مكث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَكَّة ثَلَاثَة عشر عَاما يَدْعُو إِلَى التَّوْحِيد ويربي أَصْحَابه على العقيدة ويغرسها فِي نُفُوسهم فَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طيلة هَذِه الْمدَّة يبْذل غَايَة جهده لتخليص النُّفُوس من شوائب الشّرك ويربي نفوس الْمُؤمنِينَ على صدق التَّوَجُّه لله إِرَادَة وقصداً وعبودية خَالِصَة، ونجد آيَات الْقُرْآن فِي هَذِه الفترة تركز على أُمُور العقيدة من الْإِيمَان بِاللَّه وَبَيَان صِفَاته وأسمائه وَالْإِيمَان برسله وَكتبه وَمَلَائِكَته والبعث والنشور وَغَيرهَا.
وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أول مَا يَدْعُو النَّاس إِلَى كلمة التَّوْحِيد
لاإله إِلَّا الله وَفِي صَحِيح مُسلم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
لِعَمِّهِ: ((يَا عَم قل لَا إِلَه إِلَّا الله كلمة
أشهد لَك بهَا عِنْد الله)) [2]. وعندما
جَاءَهُ وَفد عبد الْقَيْس قَالَ لَهُم آمركُم بِأَرْبَع آمركُم بِالْإِيمَان
بِاللَّه ثمَّ فَسرهَا لَهُم فَقَالَ: ((شَهَادَة أَن
لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَن مُحَمَّدًا رَسُول الله))[3]. ونجده
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْدَمَا يبْعَث أحدا للدعوة إِلَى الله يَأْمُرهُ أَن
يبْدَأ بِالتَّوْحِيدِ فِي دَعوته فعندما أرسل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم معَاذًا
إِلَى الْيمن قَالَ: ((فَلْيَكُن أول مَا تدعوهم
إِلَيْهِ شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله)) وَفِي بعض الرِّوَايَات ((إِلَى أَن يوحدوا الله)) [4]
قَالَ الشَّيْخ العلاَّمة سُلَيْمَان بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب رَحمَه
الله: وَفِيه دَلِيل على أَن التَّوْحِيد الَّذِي هُوَ إخلاص الْعِبَادَة لله
وَحده لَا شريك لَهُ وَترك عبَادَة مَا سواهُ هُوَ أول وَاجِب، فَلهَذَا كَانَ أول
مَا دعت إِلَيْهِ الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول إِلَّا نوحي إِلَيْهِ أَنه
لَا إِلَه إِلَّا أَنا فاعبدون ﴾ [5] وَقَالَ
أَيْضا: وَإِذا أَرَادَ الدعْوَة إِلَى ذَلِك فليبدأ بالدعوة إِلَى التَّوْحِيد
الَّذِي هُوَ معنى شَهَادَة أَن لَا إِلَه الله إِذْ لَا تصح الْأَعْمَال إِلَّا
بِهِ فَهُوَ أَصْلهَا الَّذِي تبنى عَلَيْهِ وَمَتى لم يُوجد لم ينفع الْعَمَل بل
هُوَ حابط إِذْ لَا تصح الْأَعْمَال مَعَ الشّرك[6].
كَذَلِك نجد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْدَمَا أرسل عليا رَضِي الله عَنهُ لفتح خَيْبَر وَأَعْطَاهُ الرَّايَة أمره أَن يَدعُوهُم إِلَى شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله ويقاتلهم عَلَيْهَا[7].
قَالَ الشَّيْخ سُلَيْمَان بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب رَحمَه الله تَعْلِيقا على هَذَا الحَدِيث: وَفِيه أَن الدعْوَة إِلَى شَهَادَة أَن لَا إِلَه إِلَّا الله المُرَاد بهَا الدعْوَة إِلَى الْإِخْلَاص بهَا وَترك الشّرك وَإِلَّا فاليهود يَقُولُونَهَا وَلم يفرق النَّبِي (فِي الدعْوَة إِلَيْهَا بَينهم وَبَين من لَا يَقُولهَا من مُشْركي الْعَرَب فَعلم أَن المُرَاد من هَذِه الْكَلِمَة هُوَ اللَّفْظ بهَا واعتقاد مَعْنَاهَا وَالْعَمَل بِهِ [8]، فَمن هُنَا نرى كَيفَ ركز صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على العقيدة وَالْإِخْلَاص لله وأنهما الركيزة الَّتِي يبْدَأ بهَا فِي الدعْوَة والتربية، وَأَيْضًا فَفِي مبدأ تربية الْمُسلم لوَلَده يجب أَن يغْرس فِي نَفسه التَّوْحِيد والعقيدة الصَّحِيحَة.
وَمن محَاسِن مَا رَأَيْته عِنْد بعض النَّاس أَنهم يعودون الطِّفْل أول مَا ينْطق
على كلمة التَّوْحِيد لَا إِلَه إِلَّا الله وَقد رُوي فِي ذَلِك حديثٌ مَرْفُوع
((افتحوا على صِبْيَانكُمْ بِلَا إِلَه إِلَّا الله)) رَوَاهُ الْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ
فِي شعب الْإِيمَان[9]
لكنه لَا يثبت.
لَكِن على الداعية والمربي أَن يهتم أَولا بالعقيدة ويركز عَلَيْهَا لِأَنَّهَا الركيزة لما بعْدهَا وَلِأَن قُوَّة الْإِيمَان بِاللَّه تَسْتَلْزِم الانقياد لشرعه وتثمر الاستسلام لمنهجه، ونستفيد من الْمنْهَج النَّبَوِيّ أَن من الأوليات فِي تربية الناشئة غرس التَّوْحِيد الْخَالِص فِي قُلُوبهم وَأَن يربوا على مراقبة الله عز وَجل والشعور بِقُرْبِهِ وَحفظه لأوليائه وَالْإِيمَان بِقَدرِهِ ونلمس هَذَا وَاضحا فِي تَوْجِيه كريم وتربية صَادِقَة من الْمُصْطَفى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِابْنِ عَمه الْغُلَام عبد الله بن عَبَّاس. فقد أخرج أَحْمد وَالتِّرْمِذِيّ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: كنت خلف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: ((يَا غُلَام إِنِّي أعلمك كَلِمَات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تَجدهُ تجاهك، إِذا سَأَلت فاسأل الله، وَإِذا استعنت فَاسْتَعِنْ بِاللَّه، وَاعْلَم أَن الْأمة لَو اجْتمعت على أَن ينفعوك بِشَيْء لم ينفعوك إِلَّا بِشَيْء قد كتبه الله لَك، وَلَو اجْتَمعُوا على أَن يضروك بِشَيْء لم يضروك إِلَّا بِشَيْء قد كتبه الله عَلَيْك، رفعت الأقلام وجفت الصُّحُف)) [10] وَفِي رِوَايَة أَحْمد ((تعرف على الله فِي الرخَاء يعرفك فِي الشدَّة، وَاعْلَم أَن فِي الصَّبْر على مَا تكره خيرا كثيرا وَأَن النَّصْر مَعَ الصَّبْر وَأَن الْفرج مَعَ الكرب وَأَن مَعَ الْعسر يسرا)) فَهَذِهِ توجيهات عَظِيمَة ومبادئ قويمة يغرسها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نفس هَذَا الْغُلَام النَّاشِئ تبدأ هَذِه الْكَلِمَات بالتربية على المراقبة لله وَحفظ أوامره ونواهيه وَذَلِكَ بِاتِّبَاع الْأَوَامِر وَأَدَاء الْفَرَائِض والمحافظة عَلَيْهَا وَاجْتنَاب النواهي والبعد عَنْهَا وَبِذَلِك يحفظه الله وَيكون مَعَه بالتسديد وَالْحِفْظ والعون ثمَّ التَّوْجِيه إِلَى قُوَّة الارتباط بِاللَّه واللجوء إِلَيْهِ والخضوع لَهُ والتذلل لَهُ بسؤاله وَحده والاستعانة بِهِ وَحده. قَالَ ابْن رَجَب رَحمَه الله فِي معنى الحَدِيث: ((إِن من حفظ حُدُود الله وراعى حُقُوقه، وجد الله مَعَه فِي جَمِيع الْأَحْوَال يحوطه وينصره ويحفظه ويوفقه وَيُؤَيِّدهُ ويسدده فَإِنَّهُ قَائِم على كل نفس بِمَا كسبت وَهُوَ تَعَالَى ﴿ مَعَ الَّذين اتَّقوا وَالَّذين هم محسنون ﴾ [11].
قَالَ قَتَادَة: وَمن يتق الله يكن مَعَه وَمن يكن الله مَعَه فمعه الفئة الَّتِي لاتغلب والحارس الَّذِي لَا ينَام وَالْهَادِي الَّذِي لَا يضل... وَهَذِه الْمَعِيَّة الْخَاصَّة بالمتقين غير الْمَعِيَّة الْعَامَّة الْمَذْكُورَة فِي قَوْله تَعَالَى ﴿ وَهُوَ مَعكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُم ﴾[12] فان الْمَعِيَّة الْخَاصَّة تَقْتَضِي النَّصْر والتأييد والإعانة)) [13].
وَانْظُر إِلَى عناية النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالتَّوْحِيدِ وتربية
الناشئة عَلَيْهِ وترسيخه فِي النُّفُوس بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ((إِذا سَأَلت فاسأل الله)) فَإِن هَذَا التَّوْجِيه
يُربي النَّفس على الِاسْتِغْنَاء بالخالق عَن الْخلق وعَلى الْقرب من الله
والتوجه إِلَيْهِ فِي كل الْأَحْوَال وَالْإِيمَان بقدرته وغناه سُبْحَانَهُ.
قَالَ ابْن رَجَب رَحمَه الله: قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((إِذا سَأَلت فاسأل الله)) أَمر بإفراد الله
تَعَالَى بالسؤال وَنهى عَن سُؤال غَيره من الْخلق، وَقد أَمر سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى بسؤاله فَقَالَ: ﴿ واسألوا الله من فَضله
﴾[14] وَفِي
التِّرْمِذِيّ عَن ابْن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ مَرْفُوعا: ((من لَا يسْأَل الله يغْضب عَلَيْهِ))[15] وَفِيه
أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ: ((اسألوا
الله من فَضله فَإِن الله يحب أَن يسْأَل)) [16]
وَفِي حَدِيث أخر: ((ليسأل أحدكُم ربَه حَاجته كلهَا
حَتَّى يسْأَله شسع نَعله إِذا انْقَطع)) [17].
وَفِي هَذَا الْمَعْنى أَحَادِيث كَثِيرَة وَفِي النَّهْي عَن سُؤال الْخلق
أَحَادِيث كَثِيرَة صَحِيحَة وَفِي حَدِيث ابْن مَسْعُود وَابْن عمر رَضِي الله
عَنْهُمَا مَرْفُوعا: ((لَا يزَال العَبْد يسْأَل
وَهُوَ غَنِي حَتَّى يخْلق وَجهه فَمَا يكون لَهُ عِنْد الله وَجه))[18] وَقد
بَايع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمَاعَة من الصَّحَابَة على أَن لَا
يسْأَلُوا النَّاس شَيْئا، مِنْهُم الصّديق رَضِي الله عَنهُ وَأَبُو ذَر وثوبان،
وَكَانَ أحدهم يسْقط سَوْطه وخطام نَاقَته فَلَا يسْأَل أحدا أَن يناوله إِيَّاه
رَضِي الله عَنْهُم. وَاعْلَم أَن سُؤال الله تَعَالَى دون خلقه هُوَ الْمُتَعَيّن
عقلا وَشرعا وَذَلِكَ من وُجُوه مُتعَدِّدَة مِنْهَا أَن السُّؤَال فِيهِ بذل لماء
الْوَجْه وذل للسَّائِل وَذَلِكَ لَا يصلح إِلَّا لله وَحده فَلَا يصلح الذل
إِلَّا لله بِالْعبَادَة وَالْمَسْأَلَة وَذَلِكَ من غَايَة الْمحبَّة الصادقة...
وَهَذَا الذل وَهَذِه الْمحبَّة لَا تصلح إِلَّا لله وَحده وَهَذَا هُوَ حَقِيقَة
الْعِبَادَة الَّتِي يخْتَص بهَا الْإِلَه الْحق. [19]
ثمَّ نجد فِي آخر الحَدِيث الموجه إِلَى الْغُلَام ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ التَّوْجِيه إِلَى الْيَقِين بِالْقدرِ وَفِيه تربية على الْقُوَّة وَالصَّبْر على الضّر وَنزع الْخَوْف من الْخلق. وَالرَّسُول الْكَرِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ أَن يغْرس كل هَذَا فِي أَبنَاء هَذِه الْأمة الْقُوَّة وَالْيَقِين، الْقُوَّة الَّتِي يقتحمون بهَا الْأَهْوَال ويركبون الصعاب نصْرَة لله ولدينه، وَالْيَقِين بِأَن النَّفْع والضر بيد الله سُبْحَانَهُ وبتقديره سُبْحَانَهُ فَمَا أعظم هَذِه التربية النَّبَوِيَّة وَمَا أحوجنا إِلَيْهَا الْيَوْم؟ إِن التربية على العقيدة ركيزة مهمة، وأصل يَبْنِي عَلَيْهِ غَيره فقوة الْإِيمَان تَسْتَلْزِم الانقياد وَالتَّسْلِيم فعلى قدر إِيمَان الشَّخْص وَقُوَّة عقيدته تَأتي قُوَّة الْتِزَامه بمنهج الله.
وَمن مهمات العقيدة الَّتِي يجب أَن ترسخ فِي النُّفُوس، التَّوَكُّل على لله فَهِيَ من صِفَات الْإِيمَان كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذين إِذا ذكر الله وجلت قُلُوبهم وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته زادتهم إِيمَانًا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ ﴾[20] وكما فِي قَوْله تَعَالَى: ﴿ وعَلى الله فَليَتَوَكَّل الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [21]وَيُوجه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صحابته إِلَى التَّوَكُّل الصَّادِق وَيبين لَهُم أَثَره فَيَقُول: ((لَو أَنكُمْ توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كَمَا يرْزق الطير تَغْدُو خماصا وَتَروح بطانا)) [22]والْحَدِيث مصداق لقَوْله تَعَالَى ﴿ وَمن يتوكل على الله فَهُوَ حَسبه ﴾ [23] ويُعلي الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شَأْن التَّوَكُّل علوا كَبِيرا عِنْدَمَا بَين أَن من أمته سبعين ألفا يدْخلُونَ الْجنَّة بِلَا حِسَاب وَلَا عَذَاب وهم من بلغُوا كَمَال التَّوَكُّل فَبين أَنهم ((الَّذين لَا يسْتَرقونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ)) [24].
فهم تركُوا الاسترقاء ((وَهُوَ طلب الْقِرَاءَة لمن كَانَ مَرِيضا)) والكي لكَمَال توكلهم وَلم يتشاءموا بالطير لعلمهم أَن النَّفْع والضر بيد الله فالتوكل عَلَيْهِ وَحده.
وَيضْرب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمثل الْأَعْلَى فِي قُوَّة
التَّوَكُّل بالاعتماد على الله والثقة بِهِ فَفِي معركة أحد عِنْدَمَا جمعت لَهُ
قُرَيْش لتستأصله، توكل على الله فكفاه. يَقُول ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنهُ: ((حَسبنَا الله وَنعم الْوَكِيل، قَالَهَا إِبْرَاهِيم
حينما ألقِي فِي النَّار وَقَالَهَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حينما قيل
لَهُ إِن النَّاس قد جمعُوا لكم)) [25].
واقرأ معي هَذِه الْقِصَّة وفيهَا صُورَة رائعة من صور توكله وثباته واعتماده على
الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ قَالَ ((غزونا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَزْوَة
نجد فَلَمَّا أَدْرَكته القائلة وَهُوَ فِي وادٍ كثير العضاه فَنزل تَحت شَجَرَة
واستظل بهَا وعلق سَيْفه، فَتفرق النَّاس فِي الشّجر يَسْتَظِلُّونَ، وبينما نَحن
كَذَلِك إِذْ دَعَانَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجِئْنَا فَإِذا
أَعْرَابِي قَاعد بَين يَدَيْهِ أَتَانِي وَأَنا نَائِم فاخترط سَيفي
فَاسْتَيْقَظت وَهُوَ قَائِم على رَأْسِي فَقَالَ: إِن هَذَا مخترط سَيفي صَلتا
قَالَ: من يمنعك مني؟ قلت: الله. فشامه ((يَعْنِي أغمده)) ثمَّ قعد فَهُوَ
هَذَا وَلم يعاتبه رَسُول الله) [26].
وَوَقع فِي بعض الرِّوَايَات ((فَدفع جِبْرِيل فِي
صَدره فَوَقع السَّيْف من يَده فَأَخذه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ:
من يمنعك أَنْت مني، قَالَ: لَا أحد. قَالَ: قُم فَاذْهَبْ لشأنك، فَلَمَّا ولى
قَالَ: أَنْت خير مني)) [27].
فَانْظُر كَيفَ دعاهم الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليشهدوا هَذَا الْموقف
وَكَيف أَن الله مَنعه من هَذَا الرجل الَّذِي اخْتَرَطَ سَيْفه لقُوَّة توكله
وثقته بربه.
وَهَكَذَا نجد فِي تربية الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَصْحَابه تربيتهم
على الثِّقَة بِاللَّه والاعتماد والتوكل عَلَيْهِ وَالْيَقِين بنصره لأوليائه،
فَبَيْنَمَا كَانَ الْمُسلمُونَ الْأَوَائِل تَحت طائلة عَذَاب الْمُشْركين
واستضعافهم لَهُم حَيْثُ عانوا مِنْهُم الأمرّين.
جَاءُوا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا فِي حَدِيث خباب قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ مُتَوَسِّد بردة لَهُ فِي ظلّ الْكَعْبَة فقلناألا تستغفر لنا أَلا تَدْعُو لنا؟ فَقَالَ: ((قد كَانَ من قبلكُمْ يُؤْخَذ الرجل فيحفرله فِي الأَرْض فَيجْعَل فِيهَا ثمَّ يُؤْتى بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَع على رَأسه فَيجْعَل نِصْفَيْنِ وَيُمشط بِأَمْشَاط الْحَدِيد مادون لَحْمه وعظمه مَا يصده ذَلِك عَن دينه، وَالله ليتمنّ الله هَذَا الْأَمر حَتَّى يسير الرَّاكِب من صنعاء إِلَى حَضرمَوْت لَا يخَاف إِلَّا الله وَالذِّئْب على غنمه وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُون)) [28].
هَذِه الْكَلِمَات تربية على الْيَقِين بنصر الله والثقة بِمَا عِنْده وَرفع الهمة
فِي نفوس الصَّحَابَة بِضَرْب الْمثل لَهُم بصبر الدعاة السَّابِقين لَهُم. بل علا
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بهمة أَصْحَابه لتتطلع إِلَى الْجنَّة وَتحْتَسب مَا
يُصِيبهَا عِنْد الله فها هُوَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يمر بآل يَاسر وهم
يُعَذبُونَ فَيَقُول: ((صبرا آل يَاسر فَإِن
مَوْعدكُمْ الْجنَّة)). رَوَاهُ الْحَاكِم [29] وَطَرِيق
الْجنَّة محفوف بالمكاره فَلَا بدمن الصَّبْر وَلَا بُد من تربية النُّفُوس على
التَّحَمُّل وَالصَّبْر وَإِذا ارتبطت الْقُلُوب بالجزاء الأخروي صبرت وصابرت
لِأَنَّهَا تستشعر أَن لَهَا ثَوابًا على ذَلِك هُوَ النَّعيم وَالْجنَّة الَّتِي
لَا نصب فِيهَا وَلَا تَعب والنفوس إِذا ذاقت حلاوة الْإِيمَان هان عَلَيْهَا كل
شَيْء دونه وَصَارَ زَادهَا فِي الثَّبَات على الطَّرِيق. وَلذَلِك نجد من أولويات
التربية النَّبَوِيَّة تربية النُّفُوس على الْعِبَادَة الصادقة والصلة القوية
بِاللَّه والارتباط بِهِ فَالصَّلَاة من أهم مَا يجب أَن يتعلمه ويعمله الْمُسلم
بعد الشَّهَادَتَيْنِ وَهِي أعظم صلَة للْعَبد بربه.
وَلذَلِك كَانَ الرعيل الأول لَهُم حَظّ وافر مِنْهَا فَكَانُوا يقومُونَ اللَّيْل مَعَ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى تورمت أَقْدَامهم.
ورد عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: ((لما
نزلت ﴿ يَا أَيهَا المزمل قُم اللَّيْل إِلَّا قَلِيلا ﴾ قَامَ الرَّسُول صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه حولا حَتَّى انتفخت أَقْدَامهم وَأمْسك الله خاتمتها
اثْنَي عشر شهرا ثمَّ أنزل الله التَّخْفِيف فَصَارَ قيام اللَّيْل تَطَوّعا من
بعد فَرِيضَة)) أخرجه مُسلم فِي صَحِيحه[30] وَلَقَد
وَجه الْمُصْطَفى الْكَرِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْعِنَايَة بِأَمْر
الصَّلَاة مُنْذُ الصغر فَهُوَ يُخَاطب الْآبَاء وَيَقُول: ((مروا أَوْلَادكُم بِالصَّلَاةِ لسبع وَاضْرِبُوهُمْ
عَلَيْهَا لعشر)) أخرجه أَبُو دَاوُد [31] ودلت
أَحَادِيث الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْعِنَايَة والاهتمام
بِالصَّلَاةِ وَأَنَّهَا أعظم الْأَركان بعد الشَّهَادَتَيْنِ. وَمَا ذَاك إِلَّا
لما فِيهَا من صلَة بِاللَّه تهذب النُّفُوس وتزكي الرّوح وتُقوم السلوك وتنهى عَن
الْفَحْشَاء وَالْمُنكر. فعلى المربين أَن يعتنوا بِهَذَا الْجَانِب المهم وَأَن
يغرسوا فِي نفوس الناشئة حب الصَّلَاة، والحرص على أَدَائِهَا وإقامتها على
الْوَجْه الْأَكْمَل وَأَن يَكُونُوا لَهُم فِي ذَلِك قدوة.
روى عبدا لله بن عَمْرو رضى الله عَنْهُمَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه ذكر الصَّلَاة يَوْمًا فَقَالَ: ((من حَافظ عَلَيْهَا كَانَت لَهُ نورا وبرهاناً وَنَجَاة يَوْم الْقِيَامَة، وَمن لم يحافظ عَلَيْهَا لم تكن لَهُ برهَان وَلَا نور وَلَا نجاة، وَكَانَ يَوْم الْقِيَامَة مَعَ قَارون وهامان وَفرْعَوْن وأبيَّ بن خلف)) أخرجه أَحْمد وَابْن حبَان[32] وَعَن أنس بن مَالك رَضِي الله عَنهُ قَالَ: كَانَت عَامَّة وَصِيَّة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين حَضرته الْوَفَاة وَهُوَ يُغَرْغر بِنَفسِهِ ((الصَّلَاة وَمَا ملكت أَيْمَانكُم)) رَوَاهُ أَحْمد وَابْن مَاجَه وَاللَّفْظ لَهُ [33] وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: ((إِن أول مَا يُحَاسب بِهِ العَبْد يَوْم الْقِيَامَة من عمله الصَّلَاة، فَإِن صلحت فقد أَفْلح وأنجح، وَإِن فَسدتْ فقد خَابَ وخسر، فَإِن انْتقصَ من فريضته شَيْء قَالَ الرب عز وَجل: انْظُرُوا هَل لعبدي من تطوع فيكمل مِنْهَا مَا انْتقصَ من الْفَرِيضَة، ثمَّ يكون سَائِر أَعماله على هَذَا)).
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه[34] فَانْظُر إِلَى تَعْظِيم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر الصَّلَاة وتأكيده الْمُحَافظَة عَلَيْهَا حَتَّى وَهُوَ يجود بِنَفسِهِ، ثمَّ بَيَانه لفضلها وأجرها وعظيم عُقُوبَة من فرط فِيهَا.
وَمن معالم التربية النَّبَوِيَّة غرس الْيَقِين بِالآخِرَة فِي النُّفُوس
والتذكير بهَا وَجعلهَا هِيَ الهمّ والغاية الَّتِي يسْعَى إِلَيْهَا الْمُسلم.
وَالْيَقِين بِالآخِرَة من أعظم أَسبَاب صَلَاح النُّفُوس واستقامتها وَهُوَ ركن
أصيل فِي إِيمَان العَبْد الْمُسلم وصلاحه واستقامته وَلِهَذَا نجد أَن الله
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جعله من أهم صِفَات الْمُؤمنِينَ، قَالَ تَعَالَى: ﴿ …وبالآخرة هم يوقنون ﴾ [35] ونجد
الْقُرْآن الْكَرِيم لَا تَخْلُو صفحة من صفحاته من التَّذْكِير بِالآخِرَة وَمَا
فِيهَا. وَلَقَد كَانَ مَنْهَج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ربط النُّفُوس
بِالآخِرَة وَبِمَا فِيهَا من النَّعيم الْمُقِيم وَمَا فِيهَا من الْجَزَاء
وَالْعِقَاب الْأَلِيم.
وَيتبع ذَلِك تحقير الدُّنْيَا وَسُرْعَة زَوَالهَا واغترار أَهلهَا بهَا. وتجده
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كثيرا مَا يُصَدّر أوامره وتوجيهاته بقوله: ((من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر …))
مِمَّا يدْفع للْعَمَل للآخرة وَإِرَادَة وَجه الله وثوابه وَفِي غَزْوَة
الخَنْدَق عِنْدَمَا كَانَ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار يحفرون الخَنْدَق وَرَأى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا بهم من النصب والجوع قَالَ: ((اللَّهُمَّ لَا عَيْش إِلَّا عَيْش الْآخِرَة فَاغْفِر للْأَنْصَار
والمهاجرة))[36] وتجده
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يحرص على تَوْجِيه أَصْحَابه إِلَى مَا يَنْفَعهُمْ فِي
الْآخِرَة ويزهدهم فِي مَتَاع الدُّنْيَا. حدَّث عقبَة بن عَامر رَضِي الله عَنهُ
قَالَ: خرج علينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنحن فِي الصُفَّة
فَقَالَ: ((أَيّكُم يحب أَن يَغْدُو كل يَوْم إِلَى
بُطحان أَو إِلَى العقيق فَيَأْتِي مِنْهُ بناقتين كوماوين[37]
فِي غير إِثْم ولاقطيعة رحم؟)) فَقُلْنَا: يَا رَسُول الله. نحب ذَلِك.
قَالَ: ((أَفلا يَغْدُو أحدكُم إِلَى الْمَسْجِد
فَيعلم أَو يقْرَأ آيَتَيْنِ من كتاب الله (خير لَهُ من ناقتين وَثَلَاث خير لَهُ
من ثَلَاث وَأَرْبع خيرله من أَربع وَمن أعدادهن من الْإِبِل)). رَوَاهُ
مُسلم [38]
فَتَأمل كَيفَ فَضَّل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قِرَاءَة آيَات من كتاب الله على
نَفِيس المَال عِنْدهم، وهاهو يحفز صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَصْحَابه إِلَى
التزود للآخرة والزهد فِي الدُّنْيَا، وَيسْتَعْمل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
للترغيب بِالآخِرَة وربط النُّفُوس بهَا أساليب مقنعة تدفع النُّفُوس للتزود
والجدّ وَالْعَمَل لهَذِهِ الْحَيَاة الْبَاقِيَة. عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي
الله عَنهُ قَالَ: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((أَيّكُم مَال وَارثه أحب إِلَيْهِ من مَاله؟))
قَالُوا: يَا رَسُول الله مَا منا أحد إِلَى مَاله أحب إِلَيْهِ. قَالَ: ((فَإِن مَاله مَا قَدَّم، وَمَال وَارثه مَا أخَّر))
رَوَاهُ البُخَارِيّ [39]
والأمثلة من السّنة النَّبَوِيَّة كَثِيرَة تدل على عناية الرَّسُول صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بربط النُّفُوس بالجزاء الأخروي. وَلِهَذَا كَانَ الصَّحَابَة رَضِي
الله عَنْهُم لما تربت نُفُوسهم على هَذَا المبدأ يجْعَلُونَ الْآخِرَة هِيَ
مقصدهم وغايتهم وَمُرَاد سَعْيهمْ ويحرصون على بذل النَّفس والنفيس للفوز بهَا
وَالظفر بنعيمها.
يتَمَثَّل ذَلِك فِي الصُّور الرائعة لجهادهم وبذلهم نُفُوسهم رخيصة فِي سَبِيل
الله روى البُخَارِيّ عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ: ((لما
طُعِن حَرَام بن ملْحَان ـ وَكَانَ خَاله ـ يَوْم بِئْر مَعُونَة، قَالَ بِالدَّمِ
هَكَذَا، فنضحه على وَجهه وَرَأسه ثمَّ قَالَ فزت وَرب الْكَعْبَة))[40] وَأخرج
البُخَارِيّ أَيْضا قصَّة عُمَيْر بن الْحمام رَضِي الله عَنهُ فِي غَزْوَة أحد
حينما قَالَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: ((أَرَأَيْت
إِن قتلت فَأَيْنَ أَنا؟ قَالَ فِي الْجنَّة. فَألْقى تمرات فِي يَده ثمَّ قَالَ:
لَئِن حييت حَتَّى آكل تمراتي هَذِه إِنَّهَا لحياة طَوِيلَة ثمَّ قَاتل حَتَّى
قتل))[41]
وَهَكَذَا نرى هَذِه الثَّمَرَة الْعَظِيمَة للتربية النَّبَوِيَّة بِحَيْثُ يبْذل
الْمَرْء نَفسه رخيصة فِي سَبِيل الله ويبيعها لله تَعَالَى، فَمَا أعظم هَذِه
التربية، وَفِي الْمُقَابل نرى كثيرا من الْأَحَادِيث عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم تزهد فِي الدُّنْيَا وَتبين حقارتها، وَفِي هَذَا الْبَاب أَحَادِيث
كَثِيرَة ألَّفت فِيهَا مؤلفات كالمؤلفات فِي الزّهْد.
اسْتمع إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يضْرب مثلا للدنيا بِالنِّسْبَةِ للآخرة فَيَقُول: ((وَالله مالدنيا فِي الْآخِرَة إلامثل مَا يَجْعَل أحدكُم إصبعه فِي اليم فلينظربم يرجع)) رَوَاهُ مُسلم[42] وَتَأْتِي آيَات الْقُرْآن قبل ذَلِك مؤكِّدة هَذَا الْمَعْنى يَقُول تَعَالَى ﴿ اعلموا أَنما الْحَيَاة الدُّنْيَا لعبٌ ولهوٌ وزينةٌ وتفاخر بَيْنكُم وتكاثر فِي الْأَمْوَال وَالْأَوْلَاد كَمثل غيث أعجب الْكفَّار نَبَاته ثمَّ يهيج فتراه مصفرَّاً ثمَّ يكون حطاماً وَفِي الْآخِرَة عذابٌ شَدِيد ومغفرةٌ من الله ورضوان وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاع الْغرُور ﴾ [43] لَكِن من الْمَعْلُوم أَن الْإِسْلَام لَا يغْفل أَمر الْعَمَل للدنيا والتمتع بحلالها ﴿ وَلَا تنس نصيبك من الدُّنْيَا ﴾[44] وَفِي دُعَاء الْمُؤمنِينَ الَّذين أثنى الله عَلَيْهِم ﴿ رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الْآخِرَة حَسَنَة ﴾ [45]
فَلَيْسَ الزّهْد فِي الدُّنْيَا بِتَرْكِهَا والانقطاع للآخرة بل أَن لَا تكون الدُّنْيَا فِي الْقلب وَإِن كَانَت فِي الْيَد يَقُول صَاحب كتاب وَقْفَة تربوية: ((لم يخلق الله الدُّنْيَا ثمَّ يحرّمها على خلقه، بل ذمها عِنْدَمَا يتخذها هَذَا الْمَخْلُوق هدفاً يحيا وَيَمُوت من أَجله فتنسيه الهدف الَّذِي خلق من أَجله، وَهُوَ الْعِبَادَة أما إِذا كَانَت الدُّنْيَا مزرعة للآخرة فَمَا أجملها، وَمَا ألذّها وأسعد مَا فِيهَا. لقد كثرت عِبَارَات السّلف رَضِي الله عَنْهُم عَن النَّوْع الأول من الدُّنْيَا، تِلْكَ الَّتِي تلهي صَاحبهَا عَمَّا خلق من أَجله أُولَئِكَ الَّذين أدخلوها فِي قُلُوبهم..ينبههم التَّابِعِيّ الْجَلِيل مَالك بن دِينَار بقوله: ((إِن الله جعل الدُّنْيَا دَار سفر، وَالْآخِرَة دَار مقرّ فَخُذُوا لمقركم من سفركم، وأخرجوا الدُّنْيَا من قُلُوبكُمْ قبل أَن تخرج مِنْهَا أبدانكم))[46]
إِنَّه لم يسْتَطع أحد من أُولَئِكَ العمالقة من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم
وَالتَّابِعِينَ وَالصَّالِحِينَ من بعدهمْ أَن يقومُوا بِتِلْكَ الطَّاعَات،
ويتبوءوا تِلْكَ الْمنَازل الْعَالِيَة، إِلَّا بعد أَن أخرجُوا تِلْكَ الدُّنْيَا
الملهية من قُلُوبهم وَأَن يجعلوها بِأَيْدِيهِم)) [47].
من كتاب: وقفات مع أحاديث تربية النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته
[1] سُورَة الْأَحْزَاب الْآيَة: (21).
[10] أخرجه التِّرْمِذِيّ (4/6679) وَقَالَ: حسن صَحِيح وَأخرجه أَحْمد فِي مُسْنده (1/293، 307) والْحَدِيث إِسْنَاده حسن وحسّنه ابْن رَجَب فِي جَامع الْعُلُوم وَالْحكم ص462.
[13] انْظُر كتاب ابْن رَجَب نور الاقتباس فِي مشكاة وَصِيَّة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِابْنِ عَبَّاس ص: (67، 66).
[15] سنَن التِّرْمِذِيّ رقم (3373) وَرَوَاهُ أَحْمد (2/442) وَصَححهُ الْحَاكِم (1/491) لَكِن فِي سَنَده الخوزي وَهُوَ لين الحَدِيث.
[18] أخرجه الْبَزَّار فِي مُسْنده وَقَالَ الهيثمي: فِيهِ مُحَمَّد بن أبي ليلى وَفِيه كَلَام مجمع الزَّوَائِد (3/96).
[22] من حَدِيث عمر بن الْخطاب رَضِي الله عَنهُ أخرجه التِّرْمِذِيّ ك: الزّهْد ب التَّوَكُّل على الله ح2344 (4/573) وَقَالَ حسن. وَأخرجه أَحْمد (1/30) وَابْن حبَان (الْإِحْسَان 2/509) وَالْحَاكِم فِي الْمُسْتَدْرك (4 / 318) وَإسْنَاد الحَدِيث حسن.
[24] رَوَاهُ البُخَارِيّ ك: الرقَاق ب. يدْخل الْجنَّة سَبْعُونَ ألفا (4 / 199) وَمُسلم ك: الْإِيمَان ب: الدَّلِيل على دُخُول طوائف من الْمُسلمين الْجنَّة بِلَا حِسَاب (1/ 199).
[31] سنَن أَبى دَاوُد (ك. الصَّلَاة ب: مَتى يُؤمر الْغُلَام بِالصَّلَاةِ ح:495/ 496) وَإِسْنَاده حسن.
[32] مُسْند أَحْمد (2/169) بِإِسْنَاد جيد. وَأخرجه ابْن حبَان فِي صَحِيحه (موارد الظمآن ك: الصَّلَاة ب: من حَافظ على الصَّلَاة ص 87).
[33] الْمسند للْإِمَام أَحْمد (3/115) وَسنَن ابْن ماجة ك: الْوَصَايَا ب: هَل أوصى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم [2 / 900، 901] وَهُوَ صَحِيح الْإِسْنَاد.
[34] سنَن أبي دَاوُد رقم (864) وَالتِّرْمِذِيّ رقم (413) وَقَالَ: حَدِيث حسن. وَابْن ماجة رقم (1425) والْحَدِيث كَمَا قَالَ التِّرْمِذِيّ حسن.
[36] أخرجه البُخَارِيّ ك: الْمَغَازِي ب: غَزْوَة الخَنْدَق.7 /392 وَمُسلم ك: الْجِهَاد ب: غَزْوَة الْأَحْزَاب رقم1805.
[41] صَحِيح البُخَارِيّ ك: الْمَغَازِي ب: غَزْوَة أحد (7 / 354) وَأخرج قصَّته مُسلم لَكِن فِيهَا أَن ذَلِك كَانَ فِي غَزْوَة بدر..
ليست هناك تعليقات