تردد الله في قبض نفس عبده المؤمن عند الشيعة
الحديث القدسي الشريف:
«مَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ»، من الأحاديث العظيمة التي تمتلئ بلطائف المعاني وجلال الصفات الربانية، والتي تفيض برحمة الله ولطفه بعباده المؤمنين. ومع ذلك، فقد وقع فيه خلاف بين أهل العلم، بين من أثبت صفة "التردد" لله على الوجه اللائق بجلاله وكماله، وبين من لجأ إلى التأويل بدعوى التنزيه. وتكمن أهمية هذا المقال في بيان أن صفة "التردد" كما جاءت في الحديث ليست على المعنى الذي ينصرف إلى أذهان البشر، من تردد ناتج عن جهل أو حيرة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، وإنما هي تردد من نوع خاص يدل على المحبة والرحمة والمودة بين الله وعبده. المقال يهدف لتوضيح المعنى الحق للحديث، وبيان بُعده العقدي واللغوي، مستنيراً بكلام أئمة الهدى من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية، ليكشف عن عظمة المعنى وجلال الصفة، وليُجلّي للقلوب مدى قرب الله من عباده المحبين له.
حديث "اعرضوه على القرآن" بين التحريف والبطلان حديث «كتاب الله وسنتي» بين التشكيك الشيعي وتوثيق أهل العلم المقدمة |
شرح الحديث:
«مَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ».
ذهب بعض أهل العلم إلى إجراء هذا الحديث على ظاهره وإثبات صفة التردد على ما يليق بالله. وذهب بعضهم إلى إجراء تغيير في معنى الحديث، ولا أقول (بتأويل الحديث) لأن تغيير المعنى بلا قرينة هو تحريف ولا يليق منح صفة التفسير لمن يقع في تحريف معاني الألفاظ.
ولأن الله هو الذي وصف نفسه بذلك، والله لا يصف نفسه بما لا يليق به. وليس أحد أفصح لسانا ولا أحسن بيانا ولا أنصح للأمة من النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد غاب عن هؤلاء أمر مهم لو تداركوه لما ذهبوا إلى إفساد معناه وتغييره.
فإن التردد على نوعين:
1- التوقف عن الجزم بأحد الطرفين.
2- كون الفعل مرادًا لله من جهة، مكروهًا له من جهة أخرى.
والتردد الذي وصف الله نفسه به ليس من نوع التردد الأول وهو التوقف عن الجزم بأحد الطرفين. وإنما هو من نوع كراهية ما لا بد من فعله كما يؤكد قوله تعالى ﴿عن شيء أنا فاعله﴾. أي سأفعله ولا بد. بدليل ما جاء في بعض طرق الحديث «يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ».
وهذا تأكيد على أن الله فاعل ذلك وليس من باب التوقف بسبب عدم الجزم بأحد الطرفين. وهذا التردد من الله تعالى مفسر بالحديث نفسه.
فالشيء قد يكون محبوبًا من وجه، مكروهًا من وجه. وهذا حقيقة معنى هذا الحديث. وهو أن فعل قبض العبد المؤمن مراد من الله.
ولكن يسوء الله ما يسوء عبده.
وكم يستفاد من الحديث مودة الله ولطفه بعباده سبحانه. قد أفسد هذا المعنى وفوت على الناس السعادة به بتأويلات هزيلة لم تنفع بل تضر. لأنهم يصرفون الناس عن الانتفاع بصفات وصف الله بها نفسه ويشككونهم في مصداقية ما وصف الله به نفسه.
اخترنا لكم:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما نصه:
قال ابن تيمية:
المتردد منا وإن كان تردده في الأمر لأجل كونه ما يعلم عاقبة الأمور لا يكون ما وصف الله به نفسه بمنزلة ما يوصف به الواحد منا فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ثم هذا باطل فإن الواحد منا يتردد تارة لعدم العلم بالعواقب وتارة لما في الفعلين من المصالح والمفاسد فيريد الفعل لما فيه من المصلحة ويكرهه لما فيه من المفسدة لا لجهله منه بالشيء الواحد الذي يحب من وجه ويكره من وجه كما قيل:
الشيب كره وكره أن أفارقه فأعجب لشيء على البغضاء محبوب
وهذا مثل إرادة المريض لدوائه الكريه بل جميع ما يريده العبد من الأعمال الصالحة التي تكرهها النفس هو من هذا الباب وفي الصحيح «حُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ» وقال تعالى ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ﴾ (البقرة).
ومن هذا الباب يظهر معنى التردد المذكور في هذا الحديث فإنه قال: ”لا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه“. فإن العبد الذي هذا حاله صار محبوبا للحق محبا له يتقرب إليه أولا بالفرائض وهو يحبها، ثم اجتهد في النوافل التي يحبها ويحب فاعلها فأتى بكل ما يقدر عليه من محبوب الحق فأحبه الحق لفعل محبوبه من الجانبين بقصد اتفاق الإرادة بحيث يحب ما يحبه محبوبه ويكره ما يكرهه محبوبه والرب يكره أن يسوء عبده ومحبوبه فلزم من هذا أن يكره الموت ليزداد من محاب محبوبه.
والله سبحانه وتعالى قد قضى بالموت فكل ما قضى به فهو يريده ولا بد منه فالرب مريد لموته لما سبق به قضاؤه وهو مع ذلك كاره لمساءة عبده وهي المساءة التي تحصل له بالموت فصار الموت مرادا للحق من وجه مكروها له من وجه، وهذا حقيقة التردد وهو أن يكون الشيء الواحد مرادا من وجه مكروها من وجه وإن كان لا بد من ترجح أحد الجانبين كما ترجح إرادة الموت لكن مع وجود كراهة مساءة عبده وليس إرادته لموت المؤمن الذي يحبه ويكره مساءته كإرادته لموت الكافر الذي يبغضه ويريد مساءته» (مجموع الفتاوى 18/130).
ليست هناك تعليقات